21/08/2023 - 09:38

عن انتحار المخيّم، وأكوام الثلج فوق بئره المكسورة | نصّ

عن انتحار المخيّم، وأكوام الثلج فوق بئره المكسورة | نصّ

حيفا | Getty Images

 

تقول الناس، عن رواية يهوديّة، إنّ يهودًا سمعوا في أولى ليالي استيطانهم لوادي الصليب صراخ أطفال وبكاءهم، ممَّنْ نزلت بهم مجازر الاستعمار في حيفا قبل 75 عامًا، وإنّ خوفهم هذا هو ما حمى بعضًا من بيوت الحيّ من أن تُسْتَعْمَر. هنا أحبّ أن أقول على روايتي أنا: إنّ مَنْ يخاف صراخ الموتى، يؤمن بعودتهم، ويخافها أيضًا.

لم أعرف إذ دخلتُ وادي الصليب الحيفاويّ، أنّي دخلته حاملًا ثلاثة أجساد: جسدي، وجسدَي ازدهار شعبان وسمير؛ جدّتي ووالدي اللّذَيْن رحلا عن العالم وهما مؤمنان بأنّ الموت سيعيدهما حتمًا إلى حيفا. لكن ماذا عن جسدي أنا؟ هل سيبقى حيًّا في حيفا بعد أن اغتلت أشباحها في رأسي، وضحّيت فيها بآخر صورة من المخيّم؟

دخلنا، إذن، ثلاثتنا، وادي الصليب؛ الحيّ المكتظّ بنا نحن الغائبين. كلّه بيوتٌ أصحابها مغيّبون، فوق الأرض وتحتها. بعد ساعة من البحث مرارًا وتكرارًا في أربع حارات في الحيّ، بمساعدة من سيرين - الفتاة الّتي كانت ربّما ستكون جارتي في زمن آخر - لم نستطع الوصول إلى شيء. عدنا بعد ذلك إلى ساحة صُيِّرَتْ موقفًا للسيّارات، تحيط بها بيوت قديمة. قالت لي سيرين: "ربّما كان البيت هنا!"، وقبل أن تكمل جملتها، أحسست بثقل، ورميت بجسدي على الأرض قائلًا: "هون… هون. قلبي حاسسني كان هون". شعرت بأنّي وصلت، فبكيت، غير مكترث أكانت الدار حقًّا هنا أم لا. وكأنّي شعرت بهم جميعًا يربّتون على كتفي؛ أن أنسى كلّ ما أرى وأجلس قبالتهم، وألّا أبكي مغمضًا عينيّ، كي أرى.

لم أعرف إذ دخلتُ وادي الصليب الحيفاويّ، أنّي دخلته حاملًا ثلاثة أجساد: جسدي، وجسدَي جدّتي ووالدي اللّذَيْن رحلا عن العالم وهما مؤمنان بأنّ الموت سيعيدهما حتمًا إلى حيفا...

أجل... كنّا نبكي نحن ثلاثتنا؛ ازدهار وسمير وأنا. جمع من الغائبين، يبكون من عينين اثنتين، إلى درجة جعلت سيرين تحاول كلّ الطرق لجعلي أتوقّف عن البكاء. بعد دقائق أرسلنا صورة المكان إلى د. جوني منصور. قال: نعم، كانت دار آل القلق هنا.

قبل أسبوع من ذلك، بعد أوّل ليلة لي في حيفا، وبعد أوّل 4 ساعات لي من نهارات حيفا العشرة، حاورتني الصديقة يارا أبو داهود خلال قراءة لي في مسرح «خشبة»، وابتدأت نقاشنا بـ "كيف حيفا؟". عشت طفولتي كلّها في المخيّم، ثمّ أُسْأَل في أوّل نهار لي في حيفا: "كيف حيفا؟". لم أعرف وأنا جالس أمام جمع من أبناء ترشيحا والناصرة وبير مكسور والنقب وعكّا وبير السبع وبناتها، ماذا عساي أن أقول أنا ابن المخيّمات عن حيفا؟ كنت وحيدًا تمامًا أمام الجميع، ليس لأنّني كنت وحدي، بل لأنّني وصلت جمع الغائبين متأخّرًا جدًّا، حتّى وجدتهم لاحقًا ووجدوني.

في تلك الليلة كنت أغتال آخر صوري من مخيّم اليرموك. لم أعرف "كيف هي حيفا؟" وكيف لفلسطين أن تكون، لو كانت مثلما كانت في ميراث مخيّم اليرموك؟ لم أعرف كيف أفتح حديثًا عن حيفا المخيّم، ولا حتّى عن المخيّم ذاته. كتبتْ لي صديقتي ميسون: فِعْلَتُك هذه ليست عودة، بل انتحار! وكانت كذلك. ربّما لهذا السبب تجنّبت رفع المخيّم على «الخشبة»! المخيّم الّذي أرادني ألّا أعود إلّا لفلسطينه، تلك الّتي بقيتْ على حالها حتّى النكبة. تركت المخيّم مغمض العينين في صفحات الكتاب الموضوع بشكل مائل عند زاوية الطاولة. وأردت أن أرى فلسطين هنا، والآن، بعينيّ أنا.

وربّما لهذا السبب، أعني كي لا أكمل جريمة انتحاري، قرأت في حيفا شعرًا لا ’يعلّق‘ المخيّم على ’الخشبة‘، وتحدّثت عن أشياء كثيرة عشوائيًّا. لحظتها، كانت بئر المخيّم قد انكسرت فيَّ، ولم أكن في مكاني ذاك فوق خشبة «مسرح خشبة» سوى بئر مكسورة، تحت ثلجة حيفا الكبرى؛ فلا البئر ارتوتْ، ولا الثلج المكوّم وجد مسربًا ليدخل البئر من كسوره.

وبير المكسور قرية فلسطينيّة في الجليل – شرق حيفا، قابلت منها الشخص الّذي نبّهني على بئري المكسورة تلك الليلة. أمّا الثلجة الكبرى، وأقصد ’سنة الثلجة الكبرى‘ كما يسمّيها المؤرّخ د. جوني منصور، فهي حدث تاريخيّ في فلسطين، امتدّ لأسبوع في شهر شباط (فبراير) من عام 1950. من الصعب أن يقرأ المرء عن هذا الحدث دون أن يتوقّف عنده، ويحسّ بانتقام من الأرض على محتلّها. في تلك الأيّام توقّفتْ حياة مئات من الناس بشكل فجائيّ دون مقدّمات، وبخاصّة، أهلي ممَّنْ جُمِّعوا بعد النكبة وحوصروا في وادي النسناس على يد الميليشيات اليهوديّة. أمّا نحن أبناء مخيّم اليرموك، فحوصرنا في ثلجة فلسطين الكبرى. تلك الصورة الّتي لن تحرّرها سوى الميثولوجيا، ويد الله في انتقام الأرض، وشجر يفشي بمَنْ يقف خلفه.

خرجت بعد تلك الليلة كثيرًا إلى الطرقات في حيفا. ولأنّي كنتُ أمشي بمفردي، لم أكن أميّز حيفا برواية جدّتي عن حيفا برواية ما تراه عيناي، بل كنت أراها واحدة، ملكي أنا، حيفا الجميلة والحزينة في كلّ شارع وزاوية ودرج؛ فأرسم الأمكنة أمام عينيّ عن جدّتي، ثمّ أزيدها وأنقصها وأعيد تشكيلها، وأمشي... ونمشي ثلاثتنا كلّ الليل حتّى التعب.

خرجت من المخيّم، قطعت البحر للشمال، عدت بجواز ألمانيّ، والقارب المطّاطيّ الّذي التصق فوق جلدي نزعه المفتّشون باشمئزاز، كأنّه علكة قديمة فوق كاحلي، قلتُ: "هذا ما وجدت عليه آبائي"...

يقول علاء حليحل: "شايفين بيوت الحجر الكبيرة اللّي حواليها الصبر؟ تبعت دار الشريدي؟". نظر الولدان بإمعان، وبعد لحظات نظرا إلى بعضهما بعضًا بتعجّب، ثمّ قال يزن بحذر: "لأ، مش شايفين". هزّت هاجر رأسها، وربّتت على رأس يزن بحنان، وقالت: "هاي هيّي النكبة"[1].

حاولت ليالي كثيرة الوصول إلى الميناء المغلق إلّا للمسافرين والجنود. كنت مقهورًا، كأنّما تمثّلت كلّ نكبتي تلك الليالي بجدار أقامه الاستعمار ليمنعني من الوصول إلى بحر حيفا. خرجت من المخيّم، قطعت البحر للشمال، عدت بجواز ألمانيّ، والقارب المطّاطيّ الّذي التصق فوق جلدي نزعه المفتّشون باشمئزاز، كأنّه علكة قديمة فوق كاحلي، قلت: "هذا ما وجدت عليه آبائي"، ثمّ ابتسمت ببلاهة معلنًا كرهي للماء وجئت. جئت ولم يخبرني أحد أنّ بحر حيفا منفيّ عن حيفا بجدار من أسمنت، وأنّ قواعد الميناء العسكريّ تَحول دون الوصول إلى البحر، وتبتر علاقة الناس بالبحر.

ويلي! ماذا أعرف عن حيفا، إذن؟ تخيّلت لأسابيع قبل قدومي أنّ طرقاتي في حيفا ستنتهي كلّ ليلة بالوصول إلى الماء، وأنّي تمامًا هناك سأصالحه، وأنّي تمامًا هناك سأقيم هدنة مع البحر، بيني وبين الشطّ، وأنّي ابن البحر، سأعرف أخيرًا كيف نظر آبائي قبل 75 عامًا إلى البحر بشهيّة أكثر.

في آخر الليل، كنت أعود إلى منزل صديقتي، وأضلّ عن الطريق، فتنتابني رغبة في الهروب سريعًا من حيفا وكلّ فلسطين، والعودة إلى ما أعرفه؛ لكن إلى أين؟ إلى أيّ مكان؟ وأيّ ناس؟ هنا، كانت ذروة الانتحار. أن أكون في حيفا وتسري فيّ رغبة في العودة إلى المخيّم المليء بفلسطين ’المتخيَّلة‘. لكن، ما من مخيّم ظلّ لنا، بعد أن قضى عليه وعلينا الدكتاتور السوريّ.

الانتحار يكمن، إذن، في خيبة معرفة أنّ المخيّم الّذي كنّا نطلّ منه على فلسطين، لم يكن يطلّ إلّا على فلسطين المتوارثة في رؤوسنا من الذاكرة الشفويّة، وأنّ فلسطيننا تلك، ليست إلّا في زمن موازٍ لفلسطين القابع أهلها تحت الاستعمار العسكريّ، والإثنيّ، والثقافيّ، واللغويّ، منذ 75 سنة، وأنّ ما ظننّاه جسرًا إلى الدار، حتّى لحظة الوصول إلى آخر نقطة يحملنا إليها، لن نجده إلّا في الحكايا والبيوت الّتي غُيِّب أصحابها، وفي جولات التراث المعماريّ التعريفيّة بما كان، أو بما كان يمكن أن يكون في زمن آخر لا وجود فيه للاستعمار.

كنت أتساءل كلّ ليلة: بِمَ كنت أحسّ لو عرفت أنّ باستطاعتي العودة صباح اليوم التالي إلى مخيّم اليرموك؟ ماذا لو كان ذاك الجسر يحملني حقًّا إلى فلسطين ’المتخيَّلة‘؟ كنت أتألّم من فكرة فقدان الجسر، وما بيني وبينه وما بعده. لكأنّما صرت، الآن، خارج المكان وكأنّما لم أعد قادرًا بعد ’العودة‘ إلى حيفا من العودة إلى شيء أو أحد، وكأنّما قتلت آخر صورة للمخيّم فيَّ، ثمّ انتحرت.

سأعاود تكرار ’عودتي‘ هذه حتّى العودة. سأعيدها، لا للحجر في حيّ وادي الصليب، ولا لصورة نفتني عن أهلي، ولا لصورة حبستني في منفاي، بل لأعود وأمشي في سوق الناصرة، وأسأل الناس عن جميلة العمياء...

في النهاية أقول: بلى، سأعود ألف مرّة ومرّة، حتّى لو جرّبت في كلّ مرّة طعمًا جديدًا للانتحار. وسأعاود تكرار ’عودتي‘ هذه حتّى العودة. سأعيدها، لا للحجر في حيّ وادي الصليب، ولا لصورة نفتني عن أهلي، ولا لصورة حبستني في منفاي، بل لأعود وأمشي في سوق الناصرة، وأسأل الناس عن جميلة العمياء، الّتي جاءت إلى المدينة بعد النكبة لاجئة عمياء، وسكنت غرفة أرضها من تراب، وسط السوق القديمة. تلك المرأة الّتي لم يعرف أهل الناصرة عنها شيئًا سوى أنّها يوم ماتت، وجدوا فوق تراب غرفتها مالًا ادّخرته؛ لإيمانها بأنّ ابنتها ستعود لتجدها من جديد. ولأنّه من المجدي أن نجد طريقًا - أيّ طريق إلى فلسطين - لأنّه من حقّ الأرض علينا أن تعرفها وتعرفنا، كما قلتِ يا ميسون.

وسأعاود تكرار ’عودتي‘ هذه، ربّما لأجد جميلة لا تزال تنتظر ابنة تعود. وسأعود لأرى ولأسمع مَنْ ظلّ حيًّا في حيفا، وحيدًا، معزولًا مثلنا، يخوض حروبه اليوميّة مع المُسْتَعْمِر في داره القديمة عند الجسر الجديد في الحلّيصة، وفي الجامعة، وفي الراي، وخشبة، والمكوى، والمكتبة، والحانة، والمطعم نحو الجنوب عبر تلّ السمك، غير مزاود ولا يائس من أن تجمعنا يومًا فلسطين الكبرى. سأعاود تكرار ’عودتي‘ لأسمع هيا ولمى وسيرين ويارا وفرح، وماهرًا، وغيد، وبشّارًا وربيعًا، ود. جوني، وعليًّا، وآدم وأسماء، ولأرى ابنهما سينا، يكبر في دار أهله، ولأسمعه وهو يشير نحو كلّ تفصيل ولون واسم وشارع وشجرة في حيفا، لافظًا أسماء الأشياء، بينما يضحك.

***

 

كانت هناك طرقٌ أقلّ قساوةً من هذه
لكنّي وبشكلٍ جدّيٍّ لم أرغب في البكاء!
لا في القدس ولا عند ’حاجز قلنديا‘، ولا آخر شارعٍ يودي إلى الجدار قبالة البحر في حيفا.
 

قلت لنفسي:
لا تبكِ بمجرّد أن يسألك السائق "من أين جئت؟".
ولا تبكِ عندما يسألونك "كيف هي حيفا؟".
ولا تبكِ مغمضًا عينيك
كي ترى.
 

وإن بكيتَ فلا تمشِ!
قف وابتسم ملء وجهك
للأمّ الّتي ألبستْ بناتها الفساتين وأطلقتهنّ في القدس
مثل مَنْ تفرط زهرة عمرها في عين الموت.


وابتسم ملء وجهك لأهلك والحجر في الوادي
فأنت لم تأتِ سائلًا عن توبةٍ، أو غفرانٍ للأمكنة
بل أتيتَ
لأنّك أتيتَ
متأخّرًا
من رحلة جدّك الّتي
لم يبتسم فيها يومًا إليك أحد.

 

- آخر ليلة في حيفا – في السادس من آب (أغسطس) 2023.

 


إحالات

[1] علاء حليحل، سبع رسائل إلى أمّ كلثوم، (عمّان: دار الأهليّة للتوزيع والنشر، 2023).

 


 

عبد الرحمن القلق

 

 

 

شاعر فلسطينيّ، من مواليد 1997، يدرس علوم الثقافة والجمال التطبيقيّ والدراسات المسرحيّة في «جامعة هيلدسهايم».

 

 

التعليقات